ผมแปลไม่อยากให้บังแปล
يصعب علىالمرء أن يتحدث عن الذين يحترمهم دون أن يخاف سوء الفهم ، ذلك أنه لا يزال الكثيرون يخلطون بين المواقف الفكرية والمواقف الأخلاقية ،فليس من السهل أن يصدق هؤلاء أنك تحترم الشخص بالرغم من أنك تنتقده . بناء على هذه المقدمة الضرورية أقدم هنا وجهة نظر في المسيرة الفكرية للمفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أحد أبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر ،الذي ـ وككثير من المفكرين ـ خاض جملةً من السجالات والخصومات الفكرية، ولكن السجال والخصومة أخذت معه تأثيراً مميزاً ، فقد استغرق الجدال الفكري بينه وبين مخالفيه من التيارات الإسلامية الأخرى الفترة الطويلة من حياته ، بل إن بداية شهرته الواسعة قامت على إحدى المناقشات ، وهي التي أجراها مع الشيخ ناصر الدين الألباني في السبعينيات ، والتي تطورت إلى خصومة حادة ، استمرت مدة تزيد عن عقدين بالاتهامات المتبادلة والمبالغ فيها.
وأياً ما تكن تلك الحوارات و السجالات التي خاضها البوطي فيما بعد ؛ فإن أكثرها ذيولاً كان سجاله مع الألباني، فهو الذي أسس بشكل عميق وواسع لأغلب منتقديه ، وخصوصاً في التيار السلفي ( أعني بالسلفي هنا التيار المعروف ) حتى أصبح هذا التيار هو الخصم الأساسي والمستمر له . ففي الوقت الذي أخذت فيه مسيرة ذلك الحوار تنتقل إلى خصام منشور (بالكتابة والتسجيل الصوتي)، بدأت موجة الانتقاد الأولى تتنامى وتتعاظم داخل التيار السلفي و امتداداته في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي .
ورغم اختلافه المبكر مع حركات الإسلام السياسي ، إلا أنه بقي على مسافة نقدية ذات خطاب معتدل حفظت له جمهوره بالرغم من الموجة النقدية السابقة ، حيث يعتبر جمهوره حتى بداية التسعينيات أكثر من منتقديه.
ومنذ نهاية الثمانينيات أخذ نجمه بالصعود ، إذ حقق هزيمةً لأحد رموز الماركسيين في حوارٍ ساخن على شاشة التلفاز السوري ، في وقتٍ كانت فيه الأنباء تنقل أحداث سقوط الاتحاد السوفيتي ؛ مما جعل انتصاره يعني أكثر من هزيمة لمفكر ماركسي ؛ فقد فهم على أنه سقوط للفكر الماركسي نفسه ، مقابل ذلك السقوط المادي له . ولكن لم يلبث البوطي في بداية التسعينيات أن فقد أكثر جمهوره ، بسبب مواقفه السياسية ( وهي تعبير عن مواقفه الفكرية السابقة من حركات الإسلام السياسي ) ، وموقفه النقدي اللاذع من جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، مترافقاً ذلك مع صدور كتابه الجهاد ؛ والذي رأى فيه الكثيرون (( أنه الأضعف من بين نتاجاته الفكرية )) يقوم على (( أرضية سياسية)) أكثر منها فقهية .
وبغض النظر عن هدف هذا الكتاب وقيمته ؛ فإنه ساهم كثيراً في تقليص جمهوره، بحيث انقلبت كفة الرجحان إلى غير صالحه ، فقد أصبح منتقدوه أضعاف جمهوره . إن هذه الموجة الانتقادية هي الأعتى بلا شك ، وهي الأكثر إساءةً له ؛ فقد دخل في خصومة سياسية - فكرية مع عموم الحركات الإسلامية ، في فضاء الإسلام السياسي ، و هوالفضاء الذي يشكل دائرة مفعمة بالتوتر وفي غاية الخطورة ، ؛ فالانحياز لأحد طرفي العلاقة (الحركة/السلطة) له نتائجه المتعبة ، والتي يحصدها البوطي منذ ذلك الوقت ، فيما يمكن وصفه بالموجة الانتقادية الثانية .
إن البوطي ـ وهو يخوض سجالاته تلك ـ يصدر عن رؤيةٍ للعَالَم والواقع في علاقته بالإسلام (كدين و حضارة)، وعن بنية تفكير محددة ، ويتكئ على أرضيةٍ صلبةٍ من التراث الإسلامي بحقوله العلمية و المعرفية المختلفة. وبغض النظر عن مدى اختلافنا مع هذه الرؤية للعالم والواقع ، وطريقة تناوله لهذا التراث الغني ، فإنه لا يمكن القول إلا أنه كان مخلصاً في أفكاره ومواقفه أشد الإخلاص ، الأمر الذي يجعله يبدو للبعض متعصباً لآرائه في أحايين كثيرة. ورغم كل ما حدث فقد بقي البوطي منزهاً عن الاتهامات ، فيما يتعلق بالالتزام الخلقي والإيماني بالإسلام ، فليس في خصومه جميعاً من يتهمه في ذلك . وهكذا تأتي آراؤه ومواقفه (( كاجتهادات )) تبتغي مصلحة المسلمين دون شك ، وإن كان يختلف معه الكثيرون بنفس القاعدة . والقارئ المتابع لكتابات البوطي و جدالاته في سجالاته الفكرية ؛ سيكتشف فيه شخصيةَ المناضل الصلب ، الذي يحارب في سبيل أفكاره ومبادئه ، كما سيكتشف فيه شخصية العالم المتمكن ، بقدر ما يرى " قساوةً " في مواقفه من الأشخاص والآراء.
ونحن وإن كان يمكننا أن نختلف معه في نظرته " المتشككة " لعلاقة الغرب والعالم بالإسلام بوصفها علاقة صراع وتآمر مستمرين، في مزج بين السياسي والمعرفي والأيديولوجي، ونختلف معه في طريقة الدفاع عن الإسلام ومناقشة الفكر الإسلامي المعاصر، و الإشكالات المعرفية في التراث الإسلامي نفسه، وبالتالي يمكننا أن نختلف معه " جذرياً " في طريقة وصفه للآخرين من التيارات الإسلامية المختلفة معه، والتي نرى فيها توتراً وتعسفاً أكثر مما تتطلبه، ونختلف معه أيضاً في طريقة تعامله مع التراث الإسلامي ( بوصفه جهداً بشرياً قام حول النص الشرعي ) .. إذا كنا نختلف معه في كل ذلك ـ وهو شيء ليس بالقليل ـ فإن مساحة الاتفاق معه واسعةٌ إلى حدٍ يمكننا أن نتحاور من خلاله ونتعايش معه دون إشكال ، فالأرضية التي ينطلق منها وهي التسليم بحقائق الإسلام هي الأرضية الثابتة التي لا نختلف عليها ، والتي تكفي كفاية تامةً ـ عند وعيها ـ لإقامة جسر التواصل .
و إذا كنا لا نخفي اختلافنا المذكور ؛ فإنه لا يمكننا أن ننكر الدور الذي قام به في بث " روح الصحوة " وتقديم صورة جديدة للإسلام ، تحمس لها قطاع واسع من الشباب (في سورية خصوصـًا) ، فقد كانت كتابات البوطي تسهم بشكل مؤثر في تفتح الجيل على الإسلام ، بكل ما تحمله من حسًّ صادقٍ و محترقٍ على الإسلام والمسلمين . هذا الحس الذي كان بتوهجه يبعث في قارئيه روحاً متوهجة مثله ، وبذلك الذكاء العالي والعقلانية " الموظفة " كان يبعث في القارئ وعياً جديداً ، ويخلق له الأمن النفسي والاستقرار الذهني ، بقدر ما يفتح له نافذة الأسئلة والتفكير حين كان القارئ لكتبه ينصهر دوماً معه ، في درجة عاليةٍ من " التسليم " و الاقتناع . لقد كانت كتاباته ـ باختصار ـ " جرعة " مؤثرةً و ممتدة في الصحوة الإسلامية السورية الراهنة ، فقد غذّاها بإحساس عميق بقوة الإسلام الذاتية .
ثمة محاولة قامت لإثارة موجة انتقادية جديدة ضده ، تريد فضّ ما بقي من جمهوره عنه ، يقوم بها البعض بطريقة " الصيد في الماء العكر " ، و حيث كانت الموجتان النقديتان السابقتان قائمتين في حركات وأفكار ذات نطاق واسع الانتشار ( سلفية ، صوفية ، حركات الإسلام السياسي ) وكانتا بمثابة رد فعل على مبادراته النقدية ، فإنه - وفي هذه المرة - يستثار النقد قسراً فثمة إرادة لإثارة النقد ابتداءً ، يقوم بها أشخاص مختلفون جداً عمن سبق ويشكلون خلطة محيرة من العلم والجهل ، من " جماعة الأحباش " اللبنانية الذين استغلوا خصوماته السابقة في هذه الحملة ، لتتخذ أدلة على ضلاله وانحلاله وانحرافه عن الإسلام! ففي نهاية العام الماضي 1998 وعقب حوارات قيل إنها دارت بينهم و بين الدكتور البوطي بين عامي 1995 - 1998 صدر كتاب معنون بـ " الرد العلمي " عليه ، ويبدو أنه لم يخطر ببال الدكتور البوطي ـ الذي ربما كان حاورهم لهم فعلاً ـ أن تنقلب حماقات هؤلاء عليه ، فراحوا يستنتجون في النهاية أنه " متطرف ، خليع ، إباحي ، مجسم ، حلولي ، مناهض للكتاب والسنة ?الخ " ! ! وإذا كان الرجل الذي تكال له هذه الاتهامات كالبوطي ؛ فإنه من العسير أن تجد لها صدىً لدى أي من القراء الذين يعرفونه ، بل حتى عند خصومه و أعدائه الأيديولوجيين . لا شك أن هذه الانتقادات إن صح أن نسميها " موجة نقديّة جديدة " فهي من أكثر الخصومات ابتذالاً ، ولا شك أنها أقلها تأثيراً واستمراراً .
إن الدكتور البوطي أستاذ مبدع ، و عالم جليل ، و رمز معروفٌ من رموز الفكر الإسلامي المعاصر بلا جدال ، و إذا كنا سنختلف معه ـ قليلا أوكثيراً ـ فإن علينا أن نحتفظ في اختلافنا معه بالقدر اللائق من التقدير و الاحترام له ، فالمسيرة الطويلة التي أمضاها البوطي مناضلاً مخلصاً في جبهات فكرية متعددة ينبغي أن تبقى بعين الاعتبار .
وفي المدة الأخيرة خصص البوطي كتبه لمساجلة تيار الفكر الإسلامي التجديدي المعاصر ،تحت عناوين مختلفة وخصوصـًا كتابه ((يغالطونك إذ يقولون ط2000م)) ،ويقوم نقده على أن المعاصرة إجمالاً مؤامرة أصلها من الخارج، وهو يضع الكل في سلة واحدة . ولكننا وإن كنا نختلف معه بشكل كامل ،فإننا نشير إلى استغلال سيء لمصطلح من قبل تيارات فكرية عربية ( خصوصـًا اليسارية والماركسية ) ، وبناء على هذا الاستغلال يجد البعض (والبوطي هنا) مبرراً لنسف الفكرالاسلامي الجديد ، ونحن نتوقع أن تكون موجة النقد الجديدة من هنا . ولكن هل ستأتي موجة النقد هذه بزحزحة لخارطة جمهوره مرة أخرى ، أم أنها ستعززها من جديد
(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج إبراهيم - كاتب وباحث سوري